لماذا يجب أن يكون سعر الفائدة صفراً؟

لماذا يجب أن يكون سعر الفائدة صفراً؟

 

يخوض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حربا على أسعار الفائدة المرتفعة. ويرى أن معدل التضخم المرتفع هو نتيجة أسعار الفائدة العالية، وأن الأخيرة هي داء الاقتصاد وليست الدواء.

 

أردوغان ليس وحده الذي يخالف مبادئ الاقتصاد الكلاسيكي الذي يعتبر أن “رفع أسعار الفائدة” هو أكثر الأدوات فاعلية لاحتواء التضخم المرتفع. وليس وحده الرئيس التركي الذي يخالف سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي تتبنى مبدأ رفع أسعار الفائدة كسياسة نقدية ودواء قسري لكبح جماح معدلات التضخم المرتفعة.

 

في السنوات التي أعقبت الأزمة المالية العالمية أو الكساد العظيم الذي ضرب اقتصاد الولايات المتحدة في سنة 2007 وهدد اقتصادات العالم في سنة 2009، نفذت اليابان ومن بعدها الولايات المتحدة سياسات نقدية غير تقليدية لتحفيز النشاط الاقتصادي.

 

فقرر بنك اليابان تخفيض سعر الفائدة على قروض الأفراد والشركات الاستثمارية إلى الصفر لمواجهة الكساد المزمن. ونفذت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا والبنك المركزي الأوروبي السياسة نفسها لإنعاش الاقتصاد الميت إكلينيكيا.

 

معدل الفائدة الصفري

يعتبر “معدل الفائدة الصفري” سياسة نقدية غير تقليدية تستخدمها البنوك المركزية لتحفيز النمو بتخفيض أسعار الفائدة على القروض إلى الصفر أو قريبا من الصفر. بموجب هذه السياسة، يشتري البنك المركزي الأوراق المالية طويلة الأجل من السوق المفتوحة من أجل زيادة المعروض النقدي.

 

وبتخفيض سعر الفائدة إلى الصفر يشجع البنك المركزي الأفراد على الاقتراض بدلا من الادخار، ويحفز الإنفاق الاستهلاكي بدلا من التقشف، ويدعم الاستثمار الإنتاجي بدلا من الملاذات البنكية الآمنة.

 

وفي منطقة اليورو، بالغ البنك المركزي الأوروبي في تمديد سياسة سعر الفائدة الصفري إلى معدلات الفائدة السالبة، حيث تتلقى القروض دعما ماليا.

 

تواصل حكومات الاقتصادات المتقدمة استخدام “سياسة معدلات الفائدة الصفرية” كعلاج للركود.

 

وتكمن الفائدة الأساسية من “أسعار الفائدة الصفرية” في قدرتها على تحفيز النشاط الاقتصادي ومواجهة الكساد وتوفير وظائف جديدة وخفض معدلات البطالة، لأن أسعار الفائدة الصفرية تخفض من تكلفة الاقتراض، ما يدفع البنوك إلى إقراض الأموال للأفراد والمستثمرين والشركات، ما يترتب عليه زيادة الإنفاق الاستهلاكي للأسر ويزيد الطلب على السلع، فيزيد الاستثمار الإنتاجي، وتتولد فرص عمل جديدة، فينتعش الاقتصاد بشكل عام. وقد ترتفع الأسعار “التضخم” ولكن إلى مستويات مفيدة اقتصاديا.

 

البداية من اليابان

تعتبر الحكومة اليابانية أول حكومة تطبق سياسة “معدل الفائدة الصفري” وذلك في التسعينيات من القرن الماضي. وذلك بعد انهيار فقاعة أسعار الأصول اليابانية وكجزء من سياستها النقدية خلال السنوات العشر اللاحقة والتي يشار إليها عادة باسم العقد المفقود، لعلاج انخفاض أسعار الأسهم والأصول. حيث ظل معدل الاستهلاك والاستثمار في اليابان في زيادة حتى عام 1991، وكان معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي أعلى من 3%، وأسعار الفائدة مستقرة عند 6%.

ولكن في سنة 1992، انخفضت أسعار الأسهم وغرق الاقتصاد الياباني العملاق في بحر الكساد، وتوقف نمو الناتج المحلي الإجمالي، وضرب الركود العام مناحي الاقتصاد.

 

وانخفض مؤشر أسعار المستهلكين من 2% في عام 1992 إلى 0% بحلول عام 1995. غالبًا ما يستخدم مؤشر أسعار المستهلكين كمقياس بديل لمعدلات التضخم، ويفضل أن يدور حول قيمة 3% كمحفز على نمو الاستثمار وخلق فرص عمل جديدة.

في ظل هذا الركود الاقتصادي، لجأت الحكومة إلى تخفيض أسعار الفائدة بشكل كبير حتى وصلت إلى الصفر في المائة في نفس العام. وسُميت هذه السياسة النقدية غير المألوفة على الاقتصاد الرأسمالي الغربي “معدل الفائدة الصفري”.

 

بعد سنوات رفعت الحكومة سعر الفائدة حتى وقعت الأزمة المالية العالمية، فعادت اليابان إلى سياسة معدل الفائدة الصفرية وأحيانا سالبة منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.

 

الولايات المتحدة الأميركية

تسببت الأزمة المالية سنة 2008 في ضغوط مالية عميقة في الولايات المتحدة. وفي سنة 2009، وصل الاقتصاد الأميركي إلى أدنى قاع له، حيث بلغ معدل التضخم سالب 2.1%.

 

ومن المعروف أن نسب التضخم المعتدلة تحمي الاقتصاد من الركود والكساد، عكس المعدلات المرتفعة والسالبة. وزادت نسبة البطالة إلى 10.2%، وهبط الناتج المحلي الإجمالي إلى سالب 2.54%.

 

في هذه الظروف اضطر مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى اتخاذ إجراءات متشددة، عرفت بالسياسات غير التقليدية، في محاولة لمنع الانهيار الاقتصادي، شملت “سياسة معدلات الفائدة الصفرية” قصيرة وطويلة الأجل.

 

وفي يناير 2014، وبعد ما يقارب الخمس سنوات من “سياسة معدلات الفائدة الصفرية”، تحسن معدل التضخم إلى 1.6%، وانخفضت نسبة البطالة إلى 606%، وزاد نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 3.2%.

 

وعلى الرغم من التحذير من أن استمرار “سياسة معدلات الفائدة الصفرية” طويلة المدى قد يكون لها آثار عكسية والنصح بزيادة سعر الفائدة، ظل الاقتصاد الأميركي في تحسن مستمر.

 

بل إن “سياسة معدلات الفائدة الصفرية” خلال تلك الفترة أدت إلى زيادة لاحقة في الاستثمارات وكانت لها آثار إيجابية على البطالة ومؤشر أسعار المستهلكين. وخلال الأزمة الاقتصادية العالمية المستمرة منذ بداية 2020، اقتربت أسعار الفائدة مرة أخرى من الصفر، وانخفضت عائدات سندات الخزانة الأميركية طويلة الأجل لمدة 10 سنوات و30 عامًا إلى أقل من 1%.

 

مخاطر رفع الفائدة

يحارب صندوق النقد الدولي سياسة معدل الفائدة الصفرية. ويفرض سياسة “رفع سعر الفائدة” كأداة نقدية تقليدية للسيطرة على التضخم في أكثر من 90% من دول العالم.

 

الفكرة وراء هذا الإجراء هي سحب السيولة من السوق إلى البنوك وتخفيض الاستهلاك أو الطلب المحلي على السلع، فينحسر التضخم ويتراجع.

 

وبذلك يصطنع ما يطلق عليه خبراء الاقتصاد والمالية “الانكماش المؤقت” حيث يتوقف الاستثمار الإنتاجي كنتيجة لزيادة تكلفة القروض الاستثمارية.

 

والواقع أن رفع سعر الفائدة هو دواء غير فعال لعلاج التضخم، بل هو الداء بعينه، نظرًا لأنه يزيد تكلفة الإنتاج ويرفع سعر السلع والخدمات ويغذي غول التضخم. فضلا عن أن زيادة نسبة الفائدة يؤدي مباشرة إلى تباطؤ معدل النمو وزيادة البطالة وتراجع معدلات التشغيل وفرص العمل الجديدة، ما يكرس للكساد الاقتصادي.

 

كما أن رفع سعر الفائدة يغري الأموال الأجنبية “الساخنة” لشراء السندات الحكومية الدولارية فتحقق أرباحا طائلة في الأجل القصير، دون أن تفيد الاقتصاد الوطني بالاستثمار المباشر، بل تضره بتضاعف قيمة الديون الحكومية، وتزايد أعباء خدمة الدين وبالتالي يزيد عجز الموازنة العامة للدولة، فلا تجد الحكومة مفرا من إعادة طرح السندات في السوق الدولية، وهكذا دواليك.

 

ورفع سعر الفائدة هو قرار منحاز إلى الأغنياء، حيث يؤدي إلى تضخم ثرواتهم دون عمل واستثمار إنتاجي. كما أن زيادة سعر الفائدة يزيد المقترضين فقرا، بما تحمله الكلمة من معنى، وهو أحد علل تحريم الشريعة الإسلامية للربا.

 

شاهد من أهلها

أخيرا، وفي شهر مارس/آذار الماضي، شهدا اثنان من خبراء صندوق النقد الدولي بأن “سياسة معدلات الفائدة الصفرية” والسالبة نجحت في علاج التضخم وإنعاش الاقتصاد.

 

والخبيران هما، لويس برانداوماركيز، ويعمل اقتصاديا أول في قسم تحليل الاستقرار المالي العالمي التابع لإدارة الأسواق النقدية والرأسمالية بالصندوق. والثاني، غاستون جيلوس، ويعمل مديرا مساعدا في إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية بالصندوق.

 

الخبيران قالا إنه استنادا إلى الأدلة المتاحة حتى اليوم، أثبتت سياسات أسعار الفائدة الصفرية والسالبة نجاحها في علاج التضخم بنسبة تصل إلى 90% مقارنة بالسياسة النقدية التقليدية التي تقوم على رفع سعر الفائدة.

 

وفند الخبيران بواعث القلق بشأن الآثار الجانبية المحتملة لهذه السياسات المبتكرة، وهي مخاطر الاستقرار المالي النابعة من انخفاض ربحية البنوك والخوف من اضطرابات الأسواق المالية وصناديق الاستثمار، وأكدا أن صناديق سوق المال لم تشهد انهيارا في البلدان التي اعتمدت سياسات أسعار الفائدة الصفرية والسالبة.

 

بعد استخلاص الدروس من الأزمة المالية العالمية التي ضربت الاقتصادات الرأسمالية، تنفذ 22 حكومة وبنكا مركزيا حول العالم سياسة “معدل الفائدة الصفرية” على الودائع والقروض، وليس من بينهم جميعا دولة إسلامية واحدة. وتطبق ثلاث دول أخرى سياسة “فائدة سالبة” أو أقل من الصفر بفرض رسوم على الودائع البنكية.

 

إذن، ليس وحده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يحارب لخفض سعر الفائدة بمنطق اقتصادي. ولكنه الوحيد الذي يقول إنه يخفض سعر الفائدة من منطلق الشريعة الإسلامية الصريحة، الذي أكده المنطق الاقتصادي. وأمام أردوغان معارك كبيرة لتخفيض سعر الفائدة الذي ما زال عند 14%.

 


مصدر الخبر :العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *