هل تنجح الوساطة التركية في نزع فتيل الأزمة الأوكرانية؟
مع تصاعد الأزمة على الحدود الأوكرانية وتزايد الاحتمالات حول إمكانية تنفيذ روسيا لعمل عسكري، وبعد فشل المباحثات بين الرئيسين الأمريكي والروسي في التوصل إلى نتيجة يمكن أن تنهي التوتر، كانت تركيا من أبرز الدول المبادرة لعرض الوساطة في حل الأزمة.
وكان واضحاً إصرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على عقد لقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأوكراني فوليديمر زيلينسكي، وينطلق هذا الموقف التركي من استشعار لما ستفرضه أي حرب من تحديات على تركيا مع زيادة حالة عدم الاستقرار في المنطقة.
يوجد لدى تركيا مصالح عدة في عدم تصاعد الأمور إلى حالة حرب إذ ستزيد احتمالات الحرب التي تقرع طبولها حالياً الضغوط عليها باتجاه الميل إلى أحد الطرفين مما سيجعلها أمام خسارات في بعض الملفات في حال استجابت لضغوط أحد الطرفين على حساب الآخر.
وستأتي الضغوط على تركيا على الرغم من سعيها الواضح للحفاظ على نوع من الحيادية. فقد بادرت أنقرة بشكل استباقي اتخاذ بعض الاجراءات لتفادي مثل هذه الضغوط، إذ أراد أردوغان أن يرسل رسالة إلى جميع الأطراف أن عليها أن تنظر إلى تركيا كوسيط. حيث يمكن لتركيا أن تلعب هذا الدور بحكم علاقاتها الجيدة مع الطرفين الروسي والأوكراني، وبحكم كونها دولة معنية بالاستقرار في المنطقة ومتضررة من مسار الحرب.
وقبل الولوج إلى تفاصيل عوامل نجاح الوساطة التركية في الأزمة الأوكرانية من المهم أن نشير إلى أن فكرة الوساطة بحد ذاتها تحمل لدى تركيا بعداً متعلقاً بالاستقلالية وعدم التبعية لطرف من أطراف النزاع سواء في الأزمة الأوكرانية أو غيرها كما تحمل بعداً آخر متعلقاً بتقليل تبعات الإنضمام لطرف على حساب الآخر.
تعد تركيا عضواً في الناتو ولديها موقف مؤيد لإنضمام أوكرانيا للحلف كما ترفض احتلال روسيا لمنطقة القرم، وباعت طائرات بدون طيار لأوكرانيا، وعلى الجانب الآخر لديها علاقات مهمة مع روسيا في المجال العسكري الاستراتيجي ولعل منظومة صفقة S-400 خير مثال على ذلك إذ دخلت أنقرة في تحدٍ مع حلفائها الغربيين ولم تتراجع عن اقتناء المنظومة على الرغم من إخراجها من برنامج مقاتلات F-35.
كما أن لتركيا علاقات حيوية مع روسيا في قطاع الطاقة سواء مشروع محطة الطاقة النووية التي تبنيها روسيا في تركيا أو إمدادات الغاز الروسي لتركيا أو التي تمر عبرها فضلاً عن العلاقات التجارية الأخرى بين البلدين. وهذه الأمور من شأنها أن تجعل تركيا ضمن قائمة الوسطاء المحتملين في الأزمة الأوكرانية. ويرتبط بهذا أن تراها الأطراف المتصارعة أيضاً جديرة بهذا الموقع.
توجد عوامل يمكن أن تساعد في نجاح الوساطة التركية في الأزمة الأوكرانية ومن أهمها العلاقة الشخصية بين الرئيسين بوتين وأردوغان، التي تتميز نسبياً مقارنة بالعلاقات الثنائية بين الرؤساء، وقد دعم بوتين وأشاد بأردوغان في عدة مرات فقال في عام 2018 في سياق تعليقه على الضغوط التي تعرض لها الرئيس أردوغان بعد S-400 بين تركيا وروسيا: “من الصعب بمكان ممارسة الضغوط على أردوغان، بالعكس تماماً فهذا سيزيد شجاعته”. كما في 2020 حيث قال الرئيس بوتين، إن “الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رجل يفي بوعوده”.
وعدا عن العلاقة الشخصية بين الزعيمين اللذيْن يتمتعان بكاريزما خاصة فإن بوتين يدرك سعي أردوغان لسياسة استقلالية، وبالتالي وحتى على الرغم من كون تركيا عضواً في حلف الناتو فإن موقع تركيا كحليف حقيقي بكامل استحقاقاته في الناتو والذي يقترب من 70 عاماً هو أمر محل جدال منذ عدة سنوات.
من جهة أخرى كان التقارب الذي حصل بين تركيا وروسيا خلال السنوات الأخيرة على حساب الغرب من وجهة النظر الروسية، وبالتالي فإن الحفاظ على هذا المكسب قد يكون عاملاً مساعداً في إنجاح الوساطة التركية، وعدم جعل تركيا مضطرة إلى أن تميل إلى الجانب الغربي الذي بدأ يقدم لتركيا العديد من المزايا خلال الأيام الأخيرة من قبيل التراجع الأمريكي عن دعم خط إيست ميد للغاز شرق المتوسط على سبيل المثال.
من جهة أخرى أبدت تركيا ترحيباً بدور روسيا كوسيط بين أذربيجان وأرمينيا بعد معركة قره داغ وحتى بين تركيا وأرمينيا مؤخراً والتي حصل فيها الكثير من التقدم خلال الأيام الأخيرة وصولاً إلى إمكانية أن يجري وزير الخارجية الأرميني زيارة تاريخية قريبة للعاصمة أنقرة. وهذا الترحيب والقبول التركي بالوساطة الروسية وإن كان بحكم موقع روسيا القوي في منطقة وسط آسيا فإنه على الأقل يضع أرضية لقبول روسي للوساطة التركية.
من العوامل المساعدة الأخرى لنجاح الوساطة التركية هي أن تركيا قد دخلت منذ عام تقريباً في عملية مصالحات وخفض للتوتر في معظم علاقاتها، وهو أمر من شأنه أن يدعم موقفها كوسيط في نظر معظم الأطراف في هذه المرحلة.
كما يمكننا القول إن فشل المباحثات بين بوتين وبايدن، التي جرت عبر الفيديو كونفرانس في ديسمبر/كانون الأول الماضي، يجعل الأطراف المتصارعة محتاجة إلى قنوات وساطة بديلة وتعتبر تركيا من أبرز هذه القنوات حتى لو لم تعلن الأطراف ذلك في المرحلة الحالية التي تعد أقرب لكونها مرحلة عض أصابع.
وعلى كل الأحوال حتى لو مضت روسيا نحو التصعيد ولم تقبل بالوساطة التركية وكان السيناريو الفعلي هو المضي نحو الحرب فإن إمكانية لعب تركيا دور إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن ومنع امتداد آثارها سيبقى حاضراً.
إن العلاقات الجيدة نسبيا بين تركيا وألمانيا والتي تعد أحد الأطراف الأوروبية غير المتحمسة للتصعيد بسبب اعتمادها الكبير على الغاز الروسي قد يجعل ألمانيا تلعب دوراً في تقديم تركيا كوسيط وقد تتعاون معها بشكل غير مباشر في حال اضطرت ألمانيا إلى تصدير موقف منسجم مع موقف الاتحاد الأوروبي قد يشمل عقوبات ضد روسيا.
ومع ذلك فإن ذات العوامل نفسها يمكن أن تنقلب إلى تحديات في حال كان تصور بوتين أن روسيا قوة عظمى ولا يمكن أن تقبل بوساطة دولة أخرى، وفي حال اضطرت تركيا لأن ترفض تغيير معادلة توازن القوى في المنطقة تنفذها روسيا التي ترى تراجع الهيمنة الغربية على النظام الدولي. ومن جهة أخرى إذا تزايدت عملية التقاطر أو التوازن بين القوى المختلفة فقد يصعب هذا من موقف تركيا كوسيط إذ ستتحول الأزمة لأزمة دولية أكبر تحتاج إلى جهود أكثر جماعية.
وإزاء هذا كله ليس من الواضح أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سيتراجع عن موقف الوساطة حتى لو وُجدَت بعض التعبيرات عن رفض مواقف أحد الأطراف خلال الأزمة لأن القيادة التركية ترى أن الحفاظ على الاستقرار وتجنب المزيد من الأضرار مرتبط بهذا الموقف حتى الآن وبالتأكيد مع مزيد من المعطيات ستعيد القيادة التركية ترتيب أولوياتها وحساباتها.