اللاجئون السوريون في تركيا وخطاب العنصرية
حين ترتفع سخونة الحديث عن اللاجئين السوريين في تركيا، غالباً ما تحضر مسائل عديدة، باعتبارها الدوافع الكامنة وراء خطاب العنصرية، منها ما هو ذو صلة بالحالة الاقتصادية والبطالة والتضخم المالي، إذ غالباً ما يتم إدراجها في المسببات التي تجعل من قضية اللاجئين السوريين أمراً شاغلاً ومقلقاً ليس للسوريين فحسب، بل للرأي العام التركي على العموم، ولئن كان من المتعذر استبعاد تلك المسائل أو نفي حضورها لدى الجمهور العام، إلّا أن ذلك لا يمنع من مقاربات أخرى، ربما كانت غائبة في غالب الأحيان.
ثمة مسألتان لا بدّ من التأكيد عليهما، الأولى: أن تركيا هي الدولة التي استقبلت أكبر عدد من اللاجئين السوريين
(أربعة ملايين لاجئ) وقد أُدرج هؤلاء اللاجئون تحت بند الحماية المؤقتة، كما تنبغي الإشارة في هذا السياق إلى أن الحكومة التركية قد أتاحت تسهيلات هائلة لعبور اللاجئين من خلال حدودها الممتدة على مسافة 900 كم مع الحدود السورية، فخلال الأعوام 2012 – 2013 – 2014، كان بإمكان أي مواطن سوري العبور إلى الأراضي التركية سواء من خلال المعابر الرسمية أو غير الرسمية، وسواء أكان المواطن السوري يحمل وثيقة سفر أم لا. أمّا المسألة الثانية فتتجسّد في أن حرية الحركة والنشاط التي أُتيحت للسوريين في تركيا لم تتوافر في أي بلد آخر، ففي الفترة الممتدة ما بين 2011 – 2015، كانت المدن التركية مسرحاً فسيحاً لحراك سياسي سوري متعدد الأشكال والاتجاهات، سواء على مستوى تشكيل التجمعات أو الأحزاب أو إقامة الندوات وورشات العمل، ولعله من طرائف السوريين في تركيا أنْ أطلقوا على مدينة غازي عينتاب اسم (عاصمة السياسة السورية) نظراً لكثرة ما يجري فيها من حراك سوري، أمّا على مستوى العمل المدني والإغاثي فإن معظم ما يسمى (منظمات مجتمع مدني) قد أسست وتشكلت وافتتحت مكاتب لها على الأراضي التركية، ولعله من الضروري الإشارة إلى أن الحكومة التركية لم تمارس أي شكل من أشكال التضييق على مجمل أشكال النشاط والحراك السوري طوال الفترة المشار إليها، إذ إن مجمل الأنشطة السياسية وسواها كانت تُقامُ بشكل علني سواء في قاعات الفنادق أو المكاتب الخاصة أو في أي مكان آخر، وقد استمرت هذه الحالة حتى محاولة الانقلاب الفاشلة في الخامس عشر من تموز 2016.
كان يمكن لهاتين المسألتين أعلاه، أن تتحوّلا إلى ميّزتين يمكن استثمارهما من جانب السوريين في التأسيس لعلاقات سياسية واجتماعية مع الشعب التركي قد تفضي إلى مآلات غير التي نجدها في الوقت الراهن، ولعله من الضروري التأكيد على أن الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة كان ما يزال يحظى في تلك الفترة بزخم شعبي نسبي، وكذلك بدعم سياسي ومالي دولي، وكان مقرّه في إسطنبول، كما شهد العام 2014 تشكيل الحكومة السورية المؤقتة، وكان مقرها في مدينة غازي عنتاب، ولعل هاتين المدينتين هما الأكثر حضوراً لحراك السوريين آنذاك، وكان يمكن للائتلاف والحكومة المؤقتة، باعتبارهما الكيانين الرسميين الأبرز في تمثيل ثورة السوريين، أن يُشرعا في إقامة جسور من العلاقات المتوازنة مع كل القوى السياسية التركية، وأن ينطلقا في تلك العلاقات من مبدأ المصلحة الوطنية السورية التي تقتضي التعريف بجوهر القضية السورية وإظهار أوجه العدالة والمشروعية والمطالب المحقة التي جسّدت المعين القيمي لثورة السوريين أمام كل شرائح الشعب التركي وليس أمام الحكومة التركية أو الحزب الحاكم فحسب. ما لم يخطر ببال الائتلاف والحكومة المؤقتة آنذاك ولا الآن، أن تركيا بلد ذو نظام ديمقراطي يشهد تعددية حزبية وقائم على مبدأ تداول السلطة، وأن فوز أحد الأحزاب في الانتخابات بنسبة (52 في المئة) ووصوله إلى سدّة الحكم لا يلغي دور بقية الأحزاب ولا يمكنه اختزال الدولة بالسلطة، كما فات من تصدّروا الكيانات الرسمية للمعارضة آنذاك أن أولويات المصلحة الوطنية تكمن في حيازة التأييد والنصرة لقضية الشعب السوري من جانب الشعب التركي كافة ممثلاً بأحزابه السياسية ومنظماته الاجتماعية والثقافية وليس الاقتصار على التنسيق مع طرف سياسي واحد فقط، ولعل المؤسف في الأمر أن أكثر من مسؤول تركي، سواء أكان من السياسيين أو من مراكز الأبحاث والفعاليات الثقافية أومأ إلى السوريين في أكثر من مناسبة، مشيراً إليهم بضرورة إدراكهم أن تركيا ليست هي حزب العدالة والتنمية فقط، كما عبر أكثر من مسؤول من الحكومة التركية عن امتعاض الشعب التركي واستخفاف الطيف السياسي عامة بالممارسات التشبيحية التي تصدر من مسؤولين في المعارضة الرسمية، باعتبار تلك الممارسات من مورثات الاستبداد وتتنافى مع الأعراف الديمقراطية، كما أراد بعض المسؤولين الأتراك إبلاغ السوريين أن حزب العدالة والتنمية ليس حزب البعث كما هو في سوريا، وأن أحزاب المعارضة التركية ليست أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وأن عقلية التشبيح لن تجعلكم أكثر احتراماً في نظر الآخرين، ولكن يبدو أن شهوة الارتهان لدى المعارضة السورية كانت أقوى من أيّ نزوع مخالف.
لعلها من الحقائق المؤلمة أن تكون المعارضة الرسمية السورية قد كرّست منظوراً خاطئاً للعلاقة مع الجانب التركي، إذ لم ينبثق هذا المنظور من مبدأ المصلحة الوطنية والندّية، حيث تكون القضية السورية هي الموشور الذي يوجّه العلاقة ويرسم ملامحها ومساراتها، وليس المصالح الشخصية القائمة على التبعية والولاء الشخصي، ولا يحتاج السوريون الكثير من الأمثلة والوقائع ليدركوا أن قسماً كبيراً من قيادات المعارضة السورية الرسمية بات همّهم إثبات حسن سلوكهم وخالص ولائهم للجانب التركي أكثر من همّهم وحرصهم على القضية السورية، وذلك انطلاقاً من مصالح شخصية لا تبتعد كثيراً عن التمسّك بمنصب أو وظيفة أو موقع مسؤولية، وهذا يؤدي من الناحية العملية إلى استثمار القضية السورية في خدمة المصالح الشخصية وليس العكس.
قد تبدو النتيجة الفعلية لوجود الأجسام الرسمية للمعارضة في تركيا طوال أكثر من عقد من الزمن، مخيّبةً للآمال – على مستوى التأثير الشعبي أو الجماهيري، ولعله من غير المستغرب أن نجد معظم الشرائح السياسية والشبابية التركية، سواء في الجامعات أو المراكز ذات الطابع الثقافي أو الفني أو الاجتماعي، تكاد تجهل الكثير عن الوجه الناصع للقضية السورية، بل ربما اختزل الكثير منهم جوهر القضية السورية على أنه صراع مسلّح بين داعش ونظام الأسد فحسب، وبناء على تلك النظرة فإن أي معارض سوري للنظام فهو بالضرورة يجب أن يكون مقاتلاً وفقاً لنظرة الشارع التركي، وربما هذا هو السرّ في العبارة التي يرددها الكثير من الأتراك في أية حالة احتكاك أو مشاحنة مع لاجئ سوري: (لماذا تركتم بلادكم وهربتم، اذهبوا وقاتلوا في بلادكم). لا شك أن سبب هذا الانطباع الخاطئ لا يكمن حصره في حيّز النوايا السيئة للآخر، بقدر ما يمكن إرجاعه إلى عدم قدرة السوريين على الوصول للآخر والتأثير في صياغة قناعاته، وكذلك بعدم قدرتهم على الظهور كأصدقاء لكل القوى السياسية التركية وليسوا محسوبين في صف حزب واحد فقط.
لعل الفيديو الذي تداولته وسائل التواصل مؤخراً، والذي يظهر فيه الشاب السوري أحمد كنجو وهو يناقش مجموعة من المواطنين الأتراك حوله، يؤكّد بوضوح أن مصداقية أيّ قضية عادلة لا تكمن في ماهيّتها المجرّدة فحسب، بل بماهيّة من يمثلها ويدافع عنها أيضاً.