خرائط “بيري ريس” التي أدهشت علماء الغرب (إضاءات عثمانية)

خرائط “بيري ريس” التي أدهشت علماء الغرب (إضاءات عثمانية)

في السنوات القليلة الماضية، وخصوصًا خلال عمليات التنقيب التركية عن الغاز الطبيعي في منطقة شرق البحر المتوسط، برز اسم السفينة الحفار “بيري رئيس”.

وقبل عام، دشنت تركيا أول غواصة محلية الصنع باسم “بيري رئيس”.. فما قصة هذا الاسم الذي تحرص أنقرة على أن يكون عنوانا لقطعها البحرية؟

هو محيي الدين بيري ريس، أو “بيري رئيس” كما يُعرف في الأدب العثماني ولدى الغرب أيضا، وهو من أعظم قادة البحرية العثمانية، الذين حولوا البحر المتوسط إلى بحيرة عثمانية.

ولد بيري ريس عام 1465 ميلادي في غاليبولي التي كانت مركزا إداريا للبحرية العثمانية، واشترك في الحرب بين العثمانيين والبنادقة بين عامي 1498 و1502، وحصل فيها على لقب “ريّس”.

كان في البداية ضمن المتطوعين في البحرية، والذين أُطلق عليهم “قراصنة”، لكن ليس على طريقة لصوص البحر في النهب والسلب.

فحينها، كانت القرصنة تطلق على البحريين غير النظاميين في الدولة العثمانية، الذين كانوا يهاجمون السفن المعادية.

اشترك في عمليات إغاثة مسلمي الأندلس، الذين وجهوا استغاثة إلى مصر وتونس والعثمانيين.

وتوجه بالسفن العثمانية إلى غرب المتوسط عام 1487، بجانب عمه الريس كمال، وأغار معه على سواحل فرنسا وسردينيا وكورسيكا.

وبعد انضمامه إلى البحرية النظامية العثمانية، شارك بيري ريس في الحرب بين العثمانيين والمماليك، والتي سيطر على إثرها السلطان سليم العثماني على الشام ومصر عامي 1516 و1517.

بعد أن استولى البرتغاليون على تجارة الخليج العربي مع الهند، صدر مرسوم بتعيين بيري ريس قائدا للبحرية المصرية العثمانية عام 1547، فأبحر من قناة السويس، وفتح ميناء عدن وقلعة مسقط، ونفذ عمليات بحرية كبيرة ضد البرتغاليين.

لكن بيري ريس لم يكن قائدا فذا للأسطول العثماني فحسب، بل أيضا علما بارزا من أعلام الجغرافية البحرية في الدولة العثمانية، ورائدا من رواد الخرائط في الأدب الجغرافي العثماني.

فقد قدم بيري ريس خريطتين من أدق وأهم الخرائط التي رُسمت في ذلك الوقت، انبهر بهما علماء الخرائط في أوروبا وأمريكا في القرن العشرين.

الخريطة الأولى موجودة في متحف “طوب قابي” بمدينة إسطنبول، وتحمل توقيع بيري ريس، ورسمها في غاليبولي، وقدمها للسلطان سليم الأول عام 1517م أثناء وجوده في مصر.

وفي هذه الخريطة، حدد بيري ريس إسبانيا وغرب إفريقيا والمحيط الأطلسي والسواحل الشرقية في الأمريكتين بكل ما تحويه من جزر وموانئ وحيوانات.

كما رسم السكان من الهنود الحمر ورعيهم الغنم، متبعا منهجا علميا متطورا يشمل الاعتماد على المعلومات القديمة ومتابعة التطورات الجديدة ووضع أفكاره ومشاهداته.

وحُفظت هذه الخريطة في قصر السلطان، ولم يُكشف عنها إلا بعدما عثر عليها عالم الآثار التركي، خليل أدهم.

أما الخريطة الثانية، فحدد عليها سواحل المحيط الأطلسي من جرونلاند إلى فلوريدا، وهي موجودة في متحف طوب قابي أيضا.

وتتميز هذه الخريطة بأن رسم الشواطئ والجزر أقرب إلى الواقع من الخريطة الأولى، التي تدارك بيري ريس أخطاءها.

وأضاف رسوما إلى الخريطة الثانية لم تكن في الأولى، مثل توضيحه لمدار السرطان، وجعْل مقياس الرسم فيها أكبر من الأولى.

لقد كان بيري ريس على معرفة بأمريكا قبل أن يكتشفها كريستوفر كولومبوس، ويقول في كتابه “البحرية” إن “بحر المغرب (المحيط الأطلسي) بحر عظيم، يمتد بعرض 2000 ميل تجاه الغرب من بوغاز سبته، وفي طرف هذا البحر العظيم توجد قارة هي أنتيليا”.

تعليقا على هذا، يقول الدكتور محمد حرب، المؤرخ المصري المعروف، في كتابه “العثمانيون في التاريخ والحضارة”: “وتعبيره (قارة أنتيليا) هي الدنيا الجديدة أو أمريكا، وقد كتب الريس أن هذه القارة اكتُشفت عام 870 هـ (1465م)، أي قبل اكتشاف كولومبوس لأمريكا بحوالي 27 سنة”.

ويذكر مؤرخون أنه قد أُعيرت خدمات “رود ريكو”، خادم الريس كمال (عم بيري ريس)، إلى كولومبوس في رحلته الشهيرة، وأن هذا الرجل وقف ليحول بين البحارة وكولومبوس حين أرادوا الاعتداء عليه عندما أصابهم اليأس من البحث.

وحينها، صرخ فيهم “رود ريكو”: “لا بد أن تكون في هذه المياه أرض، لأنني تعلمت هذا في إسطنبول ومن الكتب البحرية العثمانية، وأثق أننا لا بد أن نصل إلى الأرض التي نبحث عنها؛ لأن البحارة العثمانيين لا يقدمون معلومات خاطئة، وهم لا يكذبون”.

وهذا يدل على أن معرفة العثمانيين بأمريكا سابقة على اكتشاف كولومبوس لها، وبالفعل وجدوها بعد ثلاثة أيام من هذا الحديث.

وفي عام 1956، عُقدت ندوة إذاعية عن خرائط بيري ريس، في “جامعة جورج تاون” الأمريكية، خلص فيها جميع الجغرافيين الحاضرين إلى أن خرائطه التي أبرزت أمريكا هي اكتشاف خارق للعادة.

في البداية، اعتقد العلماء في القرن العشرين أن المعلومات الواردة في خرائط بيري ريس ليست دقيقة، لكن بعد ظهور أول صورة عن طريق القمر الصناعي، فوجئوا بأن خرائطه أدق من كل ما عرفوه وتصوروه، وأن معلوماتهم كانت خاطئة.

ومما زاد من إعجاب علماء الغرب ببيري ريس هو أن خرائطه أظهرت جبال أنتاركتيكا التي تُعرف بالقارة القطبية الجنوبية، مع أن هذه الجبال لم تُكتشف إلا عام 1952، بحسب ما أظهرت الدكتورة رابحة محمد خضير (قسم التاريخ، كلية الآداب، جامعة الموصل)، في بحث بعنوان “من أعلام الجغرافيا البحرية العثمانية بيري ريس”.

فبعد أن عكف فريق من العلماء، في وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) على دراسة خرائطه بعد تكبيرها عدة مرات، اكتشفوا أن بيري ريس وضع القارة السادسة “القطبية الجنوبية” في خرائطه.

ومن الإنجازات التي جعلت من بيري ريس علما من أعلام هذا الميدان، تأليفه لكتاب “البحرية” عام 1521، والذي أضاف إليه حتى 1525، وقدمه إلى السلطان سليمان القانوني، الذي خلف أباه السلطان سليم، ولهذا حديث آخر.


مصدر الخبر :الأناضول

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *