كتاب “البحرية”.. جوهرة الأدب الجغرافي العثماني

كتاب “البحرية”.. جوهرة الأدب الجغرافي العثماني

مرة أخرى نجد أنفسنا أمام شخصية عظيمة، تركت بصمتها في التاريخ العثماني أواخر القرن الخامس عشر، والنصف الأول من القرن السادس عشر الميلاديين، وهو البحار الجغرافي أحمد محيي الدين بيري،‏ الشهير بالتركية باسم بيري ريس.

كان بيري ريس أحد رموز البحرية العثمانية، ورائد جغرافيتها. وينسب إليه إعداد خريطتين من أدق وأهم الخرائط التي رُسمت في ذلك العصر، وانبهر بهما علماء الخرائط في القرن العشرين في أوروبا وأمريكا. كما يُنسب إليه أنه مكتشف أمريكا الحقيقي، بعد الكشف عن خرائط له تقر بذلك.

لكن الرجل يطل علينا هذه المرة باعتبار أنه صاحب كتاب من أبرز كتب الأدب الجغرافي وأحدث صيتا واسعا في هذا الميدان، ووضع مؤلفه بين أسماء أعظم الجغرافيين في التاريخ.

هو كتاب “البحرية”، الذي صنفه بيري ريس عام 1521 في مدينة غاليبولي (شبه جزيرة تقع في تراقيا الغربية في الجزء الأوروبي من تركيا اليوم)، وظل يتوسع فيه ويضيف إليه حتى عام 1525، ليصل إلى 743 صفحة.

وعندما انتهى منه، قدمه للسلطان العثماني سليمان القانوني الذي كان يدعم العلم والمعرفة.

ويمثل الكتاب عصارة تجارب بيري ريس على مدى ثلاثين عاما من الخبرة العملية في الشأن البحري وسعة الاطلاع في الآداب الجغرافية، سواء العربية أو الغربية، وضمّنه معلومات وخرائط دقيقة أثبت العلم المعاصر صحتها.

يعد كتاب البحرية أول سفر يتضمن معلومات تفصيلية عن موانئ المغرب العربي، وقدم وقائع دقيقة عن الأدرياتيك. ودوَّن بيري ريس فيه كل تجاربه في المناطق التي زارها، واعتُبر الكتاب مرجعا ودليلا للملاحة البحرية.

وبحسب المستشرق الروسي الشهير إغناطيوس كراتشكوفيسكي، فإن كتاب “البحرية” يمثل في أساسه أطلسًا ملاحيًا، وكان يستهدف أن يكون دليلا للملاحة الشراعية في بحري إيجة والمتوسط، على أن يستخدم في الوقت عينه مرشدا في معرفة المواضع المبينة على الخرائط.

ولهذا السبب، قدّم بيري ريس وصفا مفصلا بما فيه الكفاية لجميع السواحل، مع بيان التيارات والشُّعب والمراسي والخلجان والمرافئ ومنابع المياه العذبة والمواضع المحصنة والقلاع والمباني والخرائب. كما يتعرض، خلال ذلك، للحديث عن الجغرافيا السياسية والوضع الإداري للأماكن المختلفة.

وأثبتت البحوث الأثرية أن بيري ريس محل ثقة، فمن بين جميع التفاصيل التي يوردها لا توجد واحدة منها لم تدعمها الدراسات المعاصرة.

وقال المؤرخ والجغرافي العثماني الشهير، المصنف كأكبر موسوعي بين العثمانيين، “حاجي خليفة” أو كاتب جلبي، عن كتاب بيري ريس: “لم يُدوَّن بعده شيء شبيه به في هذا المضمار”.

وقد وُجد لهذا الكتاب نسختان، الأولى تحتوي على مئة وثلاثين فصلا، تحدث المؤلف في كل فصل منها عن موقع معين يختمه بخريطة توضيحية. أما النسخة الثانية، فعمل عليها بعد فترة من كتابته النسخة الأولى، وبتشجيع من الصدر الأعظم إبراهيم باشا الذي أعجب بشخصية بيري ريس وما يكتبه.

وأشار عليه إبراهيم باشا بأن يجمع أوراق الكتاب ويعيد ترتيبه، ليقدّمه هدية للسلطان سليمان القانوني، الذي اقتنع بما قاله إبراهيم باشا عن مؤلفه. وكانت هذه الخدمة عميقة الأثر في نفس بيري ريس.

ركز بيري ريس في نسخة الكتاب الثانية على الخرائط، إذ تضمن الكتاب 210 خرائط. كما احتوت على مقدمة من خمسين فصلا، تضمنت شتى الموضوعات التي يحتاج إليها الملاحون، مثل الاستعداد الفطري لهذه المهنة، واستخدام البوصلة، والمعرفة بالجغرافية الملاحية.

وأورد في هذه النسخة منابع النيل وزنجبار وبحر عدن والمحيط الهندي وبحر الصين والمحيط الأطلسي، والاكتشافات البرتغالية، وغيرها من المعلومات المهمة الدقيقة في مجاله.

وفي الكتاب، احتل وصف مصر مساحة كبيرة من الكتاب تبلغ حوالي ثلاثين صفحة، وصف فيها السواحل المصرية بدقة، من السلوم حتى غزة. ولم يهمل البعد التاريخي للموانئ المصرية كالإسكندرية ومطروح ودمياط وغيرها، وأورد عن تلك المدن معلومات دقيقة تفصيلية تبين عظم اهتمامه بتلك الأماكن.

ولم يقتصر كتاب بيري ريس على ذكر المعلومات الجغرافية فحسب، بل قام بتحذير السلطان سليمان القانوني من النفوذ البرتغالي وتعاظمه في المحيط الهندي، منبّهاً إلى الآثار المحتملة الخطيرة على الاقتصاد العثماني جراء تنامي هذا النفوذ، وتحول التجارة العالمية إلى أيدي أعداء الدولة.


مصدر الخبر :الأناضول

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *