تحسُّن أرقام التجارة الخارجية التركية في 2021 وفاتورة الطاقة

تحسُّن أرقام التجارة الخارجية التركية في 2021 وفاتورة الطاقة

تشكل فاتورة الطاقة التركية ما يزيد على 40 مليار دولار أمريكي سنوياً تدفعها تركيا بالقطع الأجنبي ويتحملها المواطن التركي على شكل فواتير شهرية في جانب الغاز الطبيعي أو على شكل فواتير مواصلات عند زيارة محطات الوقود أو استخدامه لوسائل النقل العام.

 

من جهة أخرى يمثل هذا الرقم دلالة على حجم السوق التركي الكبير وعلى أهمية المسار الذي يسعى إلى تعزيز أمن الطاقة التركي خاصة بعد الاكتشافات الأخيرة في البحر الأسود التي فاقت نصف ترليون متر مكعب من الغاز الطبيعي.

 

يعد الاقتصاد التركي أحد أكبر الاقتصادات العشرين في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي السنوي -أي إجمالي السلع والخدمات المنتجة في البلاد خلال عام واحد- وبشكل طبيعي فإن جزءاً كبيراً من هذه السلع يجري تصديره إلى الخارج إضافة لما يجري استهلاكه في السوق التركية نفسها، وضمن هيكل التكلفة للسلع المصدرة والمستهلكة محلياً تدخل كلفة سلع الطاقة على شكل فواتير تشغيل ونقل يجري تحميلها لحسابات الشركة الختامية وبالتالي لكلفة المنتج.

 

شهد العالم تراجعاً واضحاً في مجمل الصناعات، ورغم التراجع الحاصل في النشاط التجاري العالمي في 2020 إلا أن أرقام التجارة الخارجية التركية لم تتأثر في 2020 مقارنة بالعام الذي سبقه، حيث بلغ رقم التجارة الخارجية 390 مليار دولار أمريكي تقريباً في كل من 2020 و2019. ومؤخراً أعلنت وزارة التجارة التركية عن رقم التجارة الخارجية لشهر أغسطس/آب 2021 ليصبح رقم إجمالي التجارة الخارجية التركية خلال ثمانية أشهر 310 مليارات دولار في ثمانية أشهر فقط، كما كان وزير التجارة التركي قد أعلن عن رقم الصادرات في شهر سبتمبر/أيلول بأنه وصل إلى 20 ملياراً وقرابة 22 مليار واردات، مما يجعل رقم التجارة الخارجية للأرباع الثلاثة الأولى من 2021 حوالي 362 ملياراً، مما يرجح أن يصل الرقم إلى 450 مليار دولار في نهاية عام 2021 بفرض السير على المنوال نفسه.

 

هذا يعني أن الزيادة المتوقعة -على أساس سنوي- ستفوق 60 مليار دولار في حجم التجارة الخارجية التركية مع العالم خلال العام الجاري، كما يتوقع أن يصل الرقم إلى 470 ومن ثم 480 في عامي 2022 و2023، وهذا سينعكس على الميزان التجاري التركي الذي قد يتوازن أو يقترب من التوازن لأول مرة خلال سنوات طويلة في عام 2023.

ولاشك أن هذه القضية تحتاج إلى الوقوف عندها، فهي مسألة ذات أهمية عالية لكل من الاقتصاد التركي والاقتصادات الشريكة، حيث تعود أسباب هذا المسار نحو التوازن التجاري إلى ثلاث نقاط رئيسية ساهم كل منها ولا يزال يساهم في تعزيز هذا المسار:

 

أولا. لوفر المتوقع في فاتورة الطاقة: تتنوع أساليب تركيا في استحداث مصادر جديدة للطاقة التقليدية والمتجددة، ومع الاكتشافات الجديدة في البحر الأسود التي تحولت إلى واقع جرى ترسيخه من خلال الضخ التجريبي الذي بدأ فعلياً من هذه الحقول وما يتبعه من تدفق في الأشهر المقبلة.

 

كما أن تحويل غاز البحر الأسود إلى عقد مستقبلي أعلن عن نية طرحه في الأسواق المالية مع مطلع شهر تشرين الأول-أكتوبر من عام 2021 سيثبّت هذا التحول، وستبدأ الموارد بالتدفق بشكل مسبق حيث سيضطر الراغبون في الشراء إلى الدفع مسبقاً من أجل تثبيت الأسعار في وقت الشراء خوفاً من ارتفاعها مستقبلاً مع زيادة الطلب، وهي نقطة ستساهم بتحقيق موارد إضافية للخزينة العامة للدولة، وهذا الوفر في فاتورة الطاقة سيبدأ بالظهور في 2022 و بشكل أكبر في 2023 مما ينعكس على تخفيض رقم الواردات الإجمالية في الغاز الطبيعي بشكل خاص.

 

ثانيا. تطور الناتج المحلي الإجمالي: في ظل التراجع الذي شهدته المصانع العالمية، حافظت المصانع التركية على حد أدنى من الإنتاج بفضل الإجراءات الصحية التي تجنبت الإقفال الكامل مما سمح باستمرار الإنتاج.

 

بناءً على ذلك بلغت قيمة التصدير في 2020 قرابة 170مليار دولار أمريكي، كما ارتفع الطلب على السلع التركية في 2021 خاصة في ظل ظروف زيادة الطلب العالمي على مختلف السلع والبضائع لنرى أن أرقام التصدير المعلنة في الأرباع الثلاثة الأولى من 2021 فاقت 160 مليار دولار أمريكي أي أنها اقتربت مما جرى تحقيقه في مجمل عام 2020، ويتوقع أن تصل الصادرات التركية مع نهاية العام الجاري إلى 215 مليار دولار أمريكي وفي 2022 إلى أكثر من 220 ملياراً.

 

ثالثا. دوافع تتعلق بسعر الصرف: خلال أزمة كورونا شهد سعر صرف الليرة التركية انخفاضاً ملحوظاً، ففي النصف الثاني من 2021 وصل سعر الليرة التركية إلى أكثر من 8 ليرات لكل دولار أمريكي، ولهذا الأمر أثر إيجابي في المدى القصير والمتوسط حيث ستصبح السلع التركية أرخص مقارنة بالسلع الأجنبية مما يعزز حجم الصادرات الإجمالية.

 

فالمشتري الأجنبي سيستطيع استخدام مليون دولار لشراء سلع تفوق قيمتها 8 ملايين ليرة تركية محلياً، بينما كان يشتري بالمليون ذاته سلعاً تقل قيمتها عن 7 ملايين ليرة تركية محلياً، وهذه النقطة ستصب في صالح المُصنّع التركي بالتأكيد الذي سيتمكن من بيع مزيد من الكميات ويشغل المزيد من العمالة ويستخدم المزيد من المواد الأولية وكذلك استقدام عملات أجنبية أكبر من السابق.

مسألة أخرى يمكن الحديث حولها في أرقام التجارة الخارجية المعلن عنها من قبل الحكومة مؤخراً وهي خارطة هذه المنتجات سواءً المستوردة أو المصدرة، حيث نلاحظ أن الصادرات التركية وصلت إلى جغرافيا أوسع من العالم، حيث دخلت الدول الإفريقية بأرقام أكبر مؤخراً إضافة إلى تحسن الأرقام مع مجمل دول الشرق الأوسط والدول الأسيوية.

 

يلاحظ كذلك أن رقم الصادرات خلال الأشهر الثمانية الأولى من 2021 إلى كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا فاقت 8 مليارات دولار أمريكي لكل منهما، فيما استوردت تركيا ما يصل إلى 8 مليارات من الولايات المتحدة وحوالي 4.5 مليار من بريطانيا وهي مسألة تعكس علاقات اقتصادية جيدة مع بلدين مهمين في العالم، كذلك هناك أرقام تجارة بينية إيجابية مع فرنسا تفوق 12 مليار دولار عن المدة نفسها، وفي السياق ذاته تشهد العلاقات التجارية التركية مع الصين تحسناً ملحوظاً حيث وصل رقم التجارة الخارجية في الأشهر الثمانية الأولى من 2021 إلى أكثر من 22 ملياراً ومع الهند إلى أكثر من 7 مليارات دولار، وتشهد تطوراً واضحاً مع مصر بحوالي 4 مليارات دولار ومع السعودية بحوالي 2.5 مليار.

 

إن استعراض هذه الأرقام ومثيلاتها مع مجمل الدول يدل على توازن تجاري استراتيجي مع المجتمع الإقليمي والدولي مما يعكس رغبة تركيا في استخدام هذه الأرقام كرافعة لتحسين العلاقات السياسية مع هذه الدول من جهة، وإلى عدم المخاطر بوضع البيض كله في سلة واحدة من جهة أخرى، مما يضمن تنوع سلاسل التوريد واستمرار التدفق خلال الأزمات الدولية ممكنة الحدوث على خلفية استمرار وباء كورونا أو ظهور أي أزمات اقتصادية أو سياسية مقبلة.

 

هذا الأمر نفسه يمكن عكسه على مسألة الطاقة، فتركيا اليوم تعتمد على مجموعة من المصدرين الرئيسيين للغاز وليس مصدراً واحداً، فروسيا وأذربيجان وإيران وكذلك الجزائر والولايات المتحدة الأمريكية كلها تعد أسواقاً رئيسية لشراء الغاز الطبيعي من قبل تركيا، إضافة إلى اعتمادها على الشراء المباشر من دول شريكة كقطر أو من الأسواق الحرة في العالم، ومع تثبيت تداول الغاز التركي في الأسواق عبر طرح عقد غاز البحر الأسود يتوقع أن شركات الطاقة التركية هي أول من سيسجل لشراء هذه الكميات مما يعني دخول مصدر جديد في التداول ينوع المصادر الدولية ويقلل فاتورة الطاقة، هذه المسألة تحمل أبعاداً اقتصادية تتعلق بالتكلفة مما ينعكس على مستوى حياة المواطن التركي وأبعاد سياسية تتعلق بالأمن الطاقوي مما ينعكس على مزيد من الاستقلالية في القرار التركي.


مصدر الخبر :TRT عربي الكاتب :خالد تركاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *