دعونا وشأننا.. لا نريد إحسانا أمريكيا

دعونا وشأننا.. لا نريد إحسانا أمريكيا

كانت التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن توقعاته من العالم العربي بمثابة عبارات سرية تكشف النقاب عن كيف يحكم هؤلاء العالم حتى يومنا هذا.

لقد كشف ترامب علانية تفاصيل النظرية التي تستند إليها علاقة واشنطن بجميع الدول العربية بوجه عام ودول الخليج بشكل خاص. وفي الواقع فإن إفشائه لهذه التفاصيل بهذا القدر من الجرأة قلب رأسا على عقب كل الممارسات والأساليب والعلاقات الدبلوماسية.

إن ترامب يطلب الجزية صراحة. فالسعودية والإمارات تمتلكان الكثير من المال، وللولايات المتحدة الحق في هذا المال بسبب حمايتهم لهما حتى يومنا هذا. ولهذا فترامب يطلب هذا الحق.

لقد أنفقت الولايات المتحدة 7 تريليونات دولار لمكافحة الإرهاب في العمليات التي نفذتها في الشرق الأوسط عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وكان هذا الإنفاق – في حقيقة الأمر – من أجل حماية هذه الدول. لكن ترامب تحدث عن أن الدول العربية تمتلك الكثير من الثروات وأنها لا تشارك بلاده هذه الثروات بالرغم من تلك الأموال الطائلة التي أنفقتها أمريكا لحماية تلك البلدان من الإرهاب والخطر الإيراني. بيد أن ترامب لا يقول هذا للمرة الأولى؛ إذ كان يقول أكثر من ذلك حتى قبل انتخابه رئيسا عبر تويتر أو في بعض خطاباته. وكنا نتوقع أنه عندما يتولى منصبا مهما كرئاسة الجمهورية سيفلل من حدة هذه الأفكار التي لا يمكن قبولها، وأنه حتى لو استمر في عرض الأفكار ذاتها فإنه سيعبر عنها بأسلوب أكثر خفة. لكن الرجل واصل التعبير عن الأفكار نفسها بالطريقة عينها دون التخلي عن أسلوبه المعهود.

وإن كانت الكلمات التي يستخدمها ترامب بأسلوبه الفظ ذلك هي التعبير الصريح عن أفكاره، فإنها ليست صحيحة بالقدر ذاته، بل مخالفة للحقيقة. فلا السعودية أو أي دولة عربية أخرى بحاجة إلى حماية الولايات المتحدة لا في مواجهة إيران أو أي قوة أخرى…

وليس هناك أحد قد أوجد هذه الحاجة إلى الحماية سوى الولايات المتحدة نفسها. فأمريكا احتلت العراق لا من أجل حماية العرب من الإرهاب، بل بحجة التصدي لتهديد الإرهاب الموجه لها على بعد 5 آلاف ميل من حدودها. ورأينا أن حجة أسلحة الدمار الشامل كانت كذبة، وعلم الجميع أن هذه الفرية كانت حجة اخترعتها لاحتلال العراق الذي عزمت عليه.

ولهذا فلا حاجة لتحميل أحد فاتورة ما حدث. يتحدث ترامب اليوم عن حماية السعودية أو دول الخليج في مواجهة تهديد إيران، لكن الجميع يعلم ويرى أن واشنطن هي نفسها المسؤول الوحيد عن تحول إيران إلى تهديد بالنسبة للمنطقة.

لقد احتلت الولايات المتحدة العراق فعليا لعشر سنوات ثم قدمته على طبق من ذهب إلى إيران لتسيطر عليه، وبهذا تكون واشنطن قد نجحت بشكل مبهر في جعل هذا الأمر مصدرا للتوتر يزعج الدول العربية. فإيران هي أكثر الأدوات المهمة التي استغلتها الولايات المتحدة لفرض “الجزية” على الدول العربية. وأنصح بألا ينتظر أحد أن تتخلى واشنطن عن هذه الأداة على المدى القريب. فالتظاهر بالعداء المتبادل بين الولايات المتحدة وإيران هو أفضل طريقة عملية ليتمكن أبناء العم سام من جمع الجزية من العرب.

تعتبر إيران بالنسبة للولايات المتحدة مصدر دخل متميز في ظل النظام الدولي الحالي. فكون إيران دول غير مهددة، على عكس ما يشاع عن إنها دولة مهددة، يشكل تهديدا كبيرا بالنسبة لنظام الشرق الأوسط كما تريده الولايات المتحدة. ولو حدث شيء كهذا، فلا ليقلق أحد، فالولايات المتحدة ستسعى لاتخاذ التدابير اللازمة لإعادة إحياء هذا التهديد.

وفي حقيقة الأمر فإن تأسيس نظام وفرض الجزية بهذا المنطق هو أكثر الطرق شيوعا التي تستخدمها أنظمة المافيا التي تفرض الجزية على أناس لحمايتهم من المخاطر. والجميع يعلم أنه ليس هناك أي خطر يهدد أولئك الناس سوى من يحميهم، فهؤلاء هم الذين يشكلون التهديد الحقيقي. وإن لم يشكلوا هذا التهديد فلن يهدد أحد أو يدمر النظام القائم.

ولهذا فإن الحماية توفر حتى لا يشكل صاحبها نفسه تهديدا. وأما المقابل المادي لهذه الحماية فيكون متعلقا بعظم ثروة من فرضت عليه الجزية وإنصاف من يحصل عليها. ولا شك أن الولايات المتحدة لا إنصاف لديها وأن أموال العرب لا نهاية لها.

لا ريب أن لكل مسلم فقير وجائع حول العالم حق في ثروات العرب. فبزكاة أموال الجزية التي تجمعها الولايات المتحدة فقط يمكن القضاء بسهولة على مشكلة الجوع في العالم الإسلامي. لكن أمريكا لا تهتم لهذا الأمر. وفي الواقع، فإن هذا كان دائما ما يشكل أساس العلاقة بين واشنطن ودول الخليج العربي. لكن أحدا قبل ترامب لم يفصح بهذه الصراحة عن هذا الأساس. فالرجل يعبر عن عقلية الولايات المتحدة ووجهة نظرها القائمة خلف المشهد العالمي بأكثر الطرق صراحة ووضوحا.

وبطبيعة الحال ما يصعب علينا فهمه هنا هو كيف ترضى الدول العربية بهذه السهولة بعلاقة كتلك. ألا يعلمون أن الخوف لا يعجل بالأجل أو يؤخره؟ ألا يعلمون أنهم لو قبلوا الجزية والابتزاز ولو لمرة واحدة فإنهم لن يستطيعوا إشباع هذا الوحش الكاسر؟

كانت الولايات المتحدة قد فرضت هذا النظام كذلك على تركيا وفرضت الجزية بالتوازي مع ما تملكه تركيا من ثروات. لكن أنقرة نجحت خلال العقد الأخير في كسر حاجز نظام الجزية والابتزاز هذا والخروج من دائرته. كما رفضت كل مساعي الترويج لتنظيم ج ب ج الإرهابي على كل الأصعدة للنجاة من إرهاب داعش.

فرفضت تركيا كل هذه العروض قائلة “لا أريد مكافحتك للإرهاب ولا دعمك في هذا الصدد. فكلما كافحت الإرهاب، والله أعلم بماهية هذه المكافحة، تزداد قدرات الإرهاب وشراسته ويتطور”.

ولقد رأينا بوضوح بمرور الزمن أن أكبر مسؤول عن الإرهاب في الشرق الأوسط هو الولايات المتحدة وسياساتها، وليس أي شيء آخر. وبعدما رأينا هذه الحقيقة بأم أعيننا، لم يبق لدينا ما نقول سوى: دعونا وشأننا.. لا نريد إحسانا أمريكيا.


مصدر الخبر :يني شفق الكاتب :ياسين أكتاي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *